فصل: القاعدة الْخَامِسَةُ: تَفْضِيلُ السِّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ إِذَا جَنَحَ الْعَدُوُّ لَهَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.السنة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:

مَا ثَبَتَ بِالْقُرْآنِ وَالْوِجْدَانِ مِنْ كَوْنِ الْإِنْسَانِ ذَا قُدْرَةٍ وَإِرَادَةٍ وَاخْتِيَارٍ فِي أَفْعَالِهِ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ وَخَيْرٍ وَشَرٍّ وَصَلَاحٍ وَفَسَادٍ، وَكُلُّ مَا ذُكِرَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ سُنَنِهِ تَعَالَى فِي جَزَاءِ النَّاسِ عَلَى أَعْمَالِهِمْ، وَمَا ذُكِرَ فِي الْبَابَيْنِ اللَّذَيْنِ قَبْلَهُ، وَالْبَابِ الَّذِي بَعْدَهُ مِنْ إِسْنَادِ أَفْعَالِهِمْ إِلَيْهِمْ فَهُوَ مَبْنِيٌّ عَلَى هَذِهِ السُّنَةِ، وَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ فِي الْبَابِ الْأَوَّلِ مِنْ إِسْنَادِ بَعْضِ أَعْمَالِهِمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى وَتَصَرُّفِهِ فِيهِمْ فَهُوَ بَيَانٌ لِسُّنَّتِهِ فِي خَلْقِهِمْ كَذَلِكَ، وَعَلَى هَذِهِ الْقَاعِدَةِ جَرَيْنَا فِي إِبْطَالِ عَقِيدَةِ الْجَبْرِ الَّتِي فُتِنَ بِهَا أَكْثَرُ الْأَشْعَرِيَّةِ، وَشَوَاهِدُهُ فِي هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا كَثِيرَةٌ.

.الْبَابُ السَّابِعُ: فِي الْقَوَاعِدِ الْحَرْبِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ وَالسِّيَاسِيَّةِ:

وَفِيهِ 28 قَاعِدَةً.
تنبيه:
وَرَدَ فِي هَذَا الْمَوْضُوعِ عِدَّةُ قَوَاعِدَ فِي سِيَاقِ الْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الْمُنَاسِبَةِ لِنَظْمِ الْكَلَامِ، الَّذِي تَقْتَضِيهِ الْبَلَاغَةُ وَالتَّأْثِيرُ فِي التِّلَاوَةِ لِغَرَضِ الْهِدَايَةِ الَّتِي هِيَ الْمَقْصِدُ الْأَوَّلُ لِلدِّينِ، نَذْكُرُهَا فِي تَرْتِيبٍ آخَرَ تَقَدَّمَ فِيهِ الْأَهَمُّ فِي الْمَوْضُوعِ فَالْأَهَمُّ بِحَسَبِ الشُّئُونِ الْحَرْبِيَّةِ فَنَقُولُ:

.الْقَاعِدَةُ الْأُولَى: وُجُوبُ إِعْدَادِ الْأُمَّةِ كُلَّ مَا تَسْتَطِيعُهُ مِنْ قُوَّةٍ لِقِتَالِ أَعْدَائِهَا:

فَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ عَدَدُ الْمُقَاتِلَةِ، وَالْوَاجِبُ أَنْ يَسْتَعِدَّ كُلُّ مُكَلَّفٍ لِلْقِتَالِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فَرْضًا عَيْنِيًّا فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ، يَسْتَدْعِي مَا يُسَمَّى بِالنَّفِيرِ الْعَامِ، وَلَا يُمْكِنُ هَذَا فِي أُمَمِ الْحَضَارَةِ إِلَّا بِمُقْتَضَى نِظَامٍ عَامٍّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ السِّلَاحُ، وَهُوَ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ وَالْأَحْوَالِ، وَقَدْ كَثُرَتْ أَجْنَاسُهُ وَأَنْوَاعُهُ وَأَصْنَافُهُ فِي هَذَا الزَّمَانِ، فَمِنْهُ الْبَرِّيُّ وَالْبَحْرِيُّ وَالْهَوَائِيُّ وَلِكُلٍّ مِنْهَا مَرَاكِبُ وَسَفَائِنُ لِمُبَاشَرَةِ الْقِتَالِ، وَلِنَقْلِ الْعَسْكَرِ وَالْأَدَوَاتِ وَالزَّادِ وَالسِّلَاحِ، وَيَدْخُلُ فِيهِ الزَّادُ وَنِظَامُ سَوْقِ الْجَيْشِ وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعُلُومِ وَالْفُنُونِ الْكَثِيرَةِ.

.القاعدة الثَّانِيَةُ: وُجُوبُ رِبَاطِ الْخَيْلِ:

فَإِنَّ مِنْ أَهَمِّ الْقُوَى الْحَرْبِيَّةِ مُرَابَطَةَ الْفُرْسَانِ فِي ثُغُورِ الْبِلَادِ، وَخَصَّهُ بِالذِّكْرِ لِلْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَعَدَمِ الِاسْتِغْنَاءِ عَنْهُ، حَتَّى فِي هَذَا الْعَصْرِ الَّذِي كَثُرَتْ فِيهِ مَرَاكِبُ النَّقْلِ الْبُخَارِيَّةُ وَالْكَهْرَبَائِيَّةُ بِأَنْوَاعِهَا، وَالنَّصُّ الْعَامُّ الصَّرِيحُ فِي هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ قوله تعالى: {وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ} (60).

.القاعدة الثَّالِثَةُ: أَنْ يَكُونَ الْقَصْدُ الْأَوَّلُ مِنْ إِعْدَادِ هَذِهِ الْقُوَى وَالْمُرَابَطَةِ إِرْهَابَ الْأَعْدَاءِ وَإِخَافَتَهُمْ مِنْ عَاقِبَةِ التَّعَدِّي عَلَى بِلَادِ الْأُمَّةِ أَوْ مَصَالِحِهَا أَوْ عَلَى أَفْرَادٍ مِنْهَا أَوْ مَتَاعٍ لَهَا حَتَّى فِي غَيْرِ بِلَادِهَا:

لِأَجْلِ أَنْ تَكُونَ آمِنَةً فِي عُقْرِ دَارِهَا، مُطَمْئِنَةً عَلَى أَهْلِهَا وَمَصَالِحِهَا وَأَمْوَالِهَا، وَهَذَا مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ هَذَا الْعَصْرِ بِالسِّلْمِ الْمُسَلَّحِ، وَتَدَّعِيهِ الدُّوَلُ الْعَسْكَرِيَّةُ فِيهِ زُورًا وَخِدَاعًا، وَلَكِنَّ الْإِسْلَامَ امْتَازَ عَلَى الشَّرَائِعِ كُلِّهَا بِأَنْ جَعَلَهُ دِينًا مَفْرُوضًا، فَقَيَّدَ الْأَمْرَ بِإِعْدَادِ الْقُوَى وَالْمُرَابَطَةِ بِقَوْلِهِ: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُمْ (60)}

.القاعدة الرَّابِعَةُ: إِنْفَاقُ الْمَالِ فِي سَبِيلِ اللهِ، لِإِعْدَادِ مَا ذُكِرَ:

إِذْ لَا يَتِمُّ بِدُونِ الْمَالِ شَيْءٌ مِنْهُ، وَلِذَلِكَ قَالَ بَعْدَ مَا ذُكِرَ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ: {وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)} وَقَدْ كَانَ هَذَا الْإِنْفَاقُ فِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ مَوْكُولًا إِلَى إِيمَانِ الْمُؤْمِنِينَ فِي يُسْرِهِمْ وَعُسْرِهِمْ، كَمَا تَرَى فِي أَخْبَارِ غَزْوَةِ تَبُوكَ الْمُجْمَلَةِ فِي السُّورَةِ الْآتِيَةِ (التَّوْبَةِ) وَالْمُفَصَّلَةِ فِي السِّيرَةِ النَّبَوِيَّةِ، ولابد لَهُ مِنْ نِظَامٍ فِي هَذَا الْعَصْرِ يَدْخُلُ فِي مِيزَانِيَّةِ الدَّوْلَةِ كَمَا تَفْعَلُ جَمِيعُ الدُّوَلِ ذَاتِ النِّظَامِ الثَّابِتِ، وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ التَّوْبَةِ أَنَّ لَهُ سَهْمًا مِنْ مَالِ الزَّكَاةِ، وَهِيَ قَدْ نَزَلَتْ بَعْدَ الْأَنْفَالِ مُفَصِّلَةً لِكَثِيرٍ مِنْ إِجْمَالِهَا، وَمِنْهُ هَذَا التَّرْغِيبُ الصَّرِيحُ فِي الْإِنْفَاقِ لِإِعْدَادِ الْقُوَى الْعَسْكَرِيَّةِ، وَفِيهِ إِشَارَةٌ إِلَى التَّرْهِيبِ، وَإِنْذَارٌ عَلَى التَّقْصِيرِ، وَقَدْ صَرَّحَ بِمِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَ آيَاتٍ فِي شَرْعِ الْقِتَالِ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [2: 195].

.القاعدة الْخَامِسَةُ: تَفْضِيلُ السِّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ إِذَا جَنَحَ الْعَدُوُّ لَهَا:

إِيثَارًا لَهَا عَلَى الْحَرْبِ الَّتِي لَا تُقْصَدُ لِذَاتِهَا، بَلْ هِيَ ضَرُورَةٌ مِنْ ضَرُورَاتِ الِاجْتِمَاعِ تُقَدَّرُ بِقَدْرِهَا. وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى عَقِبَ الْأَمْرِ بِإِعْدَادِ كُلِّ مَا تَسْتَطِيعُهُ الْأُمَّةُ مِنْ قُوَّةٍ وَمُرَابَطَةٍ لِإِرْهَابِ عَدُوِّهِ وَعَدُوِّهَا: {وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا (61)}.
وَلَمَّا كَانَ جُنُوحُ الْعَدُوِّ لِلسَّلْمِ قَدْ يَكُونُ خَدِيعَةً لَنَا لِنَكُفَّ عَنِ الْقِتَالِ، رَيْثَمَا يَسْتَعِدُّونَ هُمْ لَهُ أَوْ لِغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ ضُرُوبِ الْخِدَاعِ، وَكَانَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ فِي هَذِهِ الْحَالِ أَنْ لَا نَقْبَلَ الصُّلْحَ مِنْهُمْ، مَا لَمْ نَسْتَفِدْ كُلَّ مَا يُمَكِّنُنَا مِنْهُ تَفَوُّقُنَا عَلَيْهِمْ- لَمْ يَعُدَّ الشَّارِعُ احْتِمَالَ ذَلِكَ مَانِعًا مِنْ تَرْجِيحِ السَّلْمِ، بَلْ قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62)} وَهُوَ بُرْهَانٌ عَلَى أَنَّ الْإِسْلَامَ دِينُ السَّلَامِ، لَكِنْ عَنْ قُدْرَةٍ وَعِزَّةٍ، لَا عَنْ ضَعْفٍ وَذِلَّةٍ، فَرَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَتَيْنِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ.

.الْقَاعِدَتَانِ السَّادِسَةُ وَالسَّابِعَةُ: الْمُحَافَظَةُ عَلَى الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ وَالْمِيثَاقِ فِي الْحَرْبِ وَالسَّلْمِ، وَتَحْرِيمُ الْخِيَانَةِ فِيهِ سِرًّا أَوْ جَهْرًا:

لِتَحْرِيمِ الْخِيَانَةِ فِي كُلِّ أَمَانَةٍ مَادِّيَّةٍ أَوْ مَعْنَوِيَّةٍ أَوْ غَيْرِهَا مُطْلَقًا وَمُقَيَّدًا، وَالْآيَاتُ فِي ذَلِكَ مُتَعَدِّدَةٌ مُحْكَمَةٌ لَا تَدَعُ مَجَالًا لِإِبَاحَةِ نَقْضِ الْعَهْدِ بِالْخِيَانَةِ فِيهِ وَقْتَ الْقُوَّةِ، وَعَدِّهِ قُصَاصَةَ وَرَقٍ عِنْدَ إِمْكَانِ نَقْضِهِ بِالْحِيلَةِ، حَتَّى إِنَّ اللهَ تَعَالَى لَمْ يُبِحْ لَنَا أَنْ نَنْصُرَ إِخْوَانَنَا الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ الْخَاضِعِينَ لِحُكْمِنَا عَلَى الْمُعَاهِدِينَ مِنَ الْكُفَّارِ كَمَا قَالَ فِي آيَةِ: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ (72)}
وَقَالَ تَعَالَى فِي النَّهْيِ عَنِ الْخِيَانَةِ عَلَى وَجْهِ الْإِطْلَاقِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ (27)}
وَفَاتَنَا أَنْ نَذْكُرَ مِنْ أَمْثِلَةِ نَقْضِ عُهُودِ الْأَعْدَاءِ فَهُوَ مِنْ أَهَمِّ الْأَمَانَاتِ فَذَكَرْنَاهُ فِيمَا يَلِي:

.الْقَاعِدَةُ الثَّامِنَةُ: نَبْذُ الْعَهْدِ بِشَرْطِهِ إِذَا خِيفَ مِنَ الْعَدُوِّ الْمُعَاهِدِ لَنَا أَنْ يَخُونَ فِي عَهْدِهِ:

وَظَهَرَتْ آيَةُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ أَوْ عَمَلِهِ، فَحِينَئِذٍ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَنْبِذَ إِلَيْهِ عَهْدَهُ عَلَى طَرِيقٍ عَادِلٍ سَوِيٍّ صَرِيحٍ لَا خِدَاعَ فِيهِ وَلَا خِيَانَةَ. وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)} وَهَذَا مِنَ الْفَضَائِلِ الَّتِي يَمْتَازُ بِهَا التَّشْرِيعُ الْإِسْلَامِيُّ عَلَى جَمِيعِ شَرَائِعِ الْأُمَمِ وَقَوَانِينِهَا. رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ وَبَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى أَخْذِ مُسْلِمِي الْعَصْرِ الْأَوَّلِ بِهَا عَمَلًا بِالْكِتَابِ الْعَزِيزِ وَهَدْيِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم فِيهَا بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ.

.القاعدة التَّاسِعَةُ: وُجُوبُ مُعَامَلَةِ نَاقِضِي الْعَهْدِ بِالشِّدَّةِ الَّتِي يَكُونُونَ بِهَا عِبْرَةً وَنَكَالًا لِغَيْرِهِمْ:

تَمْنَعُهُمْ مِنَ الْجُرْأَةِ وَالْإِقْدَامِ عَلَى مِثْلِ خِيَانَتِهِمْ بِنَقْضِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ نَقَضُوا عَهْدَ رَسُولِهِ الْمَرَّةَ بَعْدَ الْمَرَّةِ وَكَانُوا مِنَ الْيَهُودِ: {فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)} فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ ثُمَّ رَاجِعْ مَا كَانَ مِنْ مُعَاهَدَةِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِلْيَهُودِ، وَنَقْضِهِمْ لَهَا وَعَاقِبَةِ ذَلِكَ فِيهِمْ بِأَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ.
وَمِنْهُ يَظْهَرُ الْفَرْقُ بَيْنَ تَعَالِيمِ الْإِسْلَامِ الْجَامِعَةِ بَيْنَ الْحَزْمِ وَالْعَدْلِ، وَالشِّدَّةِ وَالْفَضْلِ، وَبَيْنَ مَا عَلَيْهِ دُوَلُ الْمَدَنِيَّةِ الْإِفْرِنْجِيَّةِ مِنَ الْقَسْوَةِ وَالظُّلْمِ.
(فَإِنْ قِيلَ): إِنَّ اتِّبَاعَ الْمُسْلِمِينَ وَحْدَهُمْ لِهَذِهِ الْفَضَائِلِ فِي الْحَرْبِ يُمَكِّنُ أَعْدَاءَهُمْ مِنْ خِيَانَتِهِمْ، وَالظُّهُورِ عَلَيْهِمْ بِعَدَمِ الْتِزَامِهِمْ لَهَا. قُلْنَا: إِنَّ أَعْدَاءَهُمْ فِي الْعُصُورِ الْأُولَى كَانُوا أَبْعَدَ مِنْ أَعْدَائِهِمْ فِي هَذَا الْعَصْرِ عَنْ هَذِهِ الْفَضَائِلِ، إِذْ لَمْ يَكُونُوا مُقَيَّدِينَ فِي الْحَرْبِ بِنِظَامٍ مِثْلِ قَوَانِينِهَا الْحَاضِرَةِ، الَّتِي تُرَاعَى وَيُحْتَجُّ بِهَا، فَإِنَّ الْقَوِيَّ يَتْرُكُهَا تَأَوُّلًا، وَكَانَ تَفَوُّقُهُمْ بِالْقُوَّةِ وَالْكَثْرَةِ عَظِيمًا، وَقَدْ غَلَبَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، وَإِنَّمَا غَلَبُوهُمْ بِهَذِهِ الْفَضَائِلِ وَأَمْثَالِهَا.

.القاعدة الْعَاشِرَةُ: جَعْلُ الْغَايَةِ مِنَ الْقِتَالِ الدِّينِيِّ حُرِّيَّةُ الدِّينِ وَمَنْعُ فُتُونِ أَحَدٍ وَاضْطِهَادِهِ:

لِأَجْلِ إِرْجَاعِهِ عَنْ دِينِهِ، وَذَلِكَ قوله تعالى: {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} وَقَدْ كَانَ الْمُشْرِكُونَ يَضْطَهِدُونَ الْمُسْلِمِينَ بِكُلِّ مَا قَدَرُوا عَلَيْهِ مِنَ الْإِيذَاءِ وَالتَّعْذِيبِ لِأَجْلِ دِينِهِمْ. وَأَمَّا الْمُسْلِمُونَ فَلَمْ يَفْعَلُوا ذَلِكَ، وَمَنْ عَسَاهُ شَذَّ عَنْ ذَلِكَ فَقَدْ خَالَفَ دِينَ الْإِسْلَامِ الَّذِي حَرَّمَ الْفِتْنَةَ وَحَرَّمَ الْإِكْرَاهَ فِي الدِّينِ، وَشَرَعَ فِيهِ الِاخْتِيَارَ [رَاجِعْ ص463 و464 وَتَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي ص552 وَمَا بَعْدَهَا ج 9 ط الْهَيْئَةِ] وَتَجِدُ فِي هَذَا الْبَحْثِ حُكْمَ الْقِتَالِ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي حَالِ الْفِتْنَةِ كَحَرْبِ الْجَمَلِ وَصِفِّينَ.

.القاعدة الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ: كَوْنُ الثَّبَاتِ فِي الْقِتَالِ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ:

الَّتِي يَحْصُلُ بِهَا مَا يُعَبَّرُ عَنْهُ فِي عُرْفِ الْعَصْرِ بِالْقُوَّةِ الرُّوحِيَّةِ، وَفِي هَذِهِ السُّورَةِ مِنْهُ بِضْعَةُ أَسْبَابٍ أُخْرَى إِيجَابِيَّةٍ وَسَلْبِيَّةٍ، نَذْكُرُهَا مَنْظُومَةً فِي سِلْكِ هَذِهِ الْقَوَاعِدِ.

.القاعدة الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ: ذِكْرُ اللهِ تَعَالَى عِنْدَ لِقَاءِ الْعَدُوِّ:

وَالنَّصُّ فِي هَاتَيْنِ الْقَاعِدَتَيْنِ قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} وَقَدْ بَيَّنَّا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ الْوَجْهَ الْمَعْقُولَ فِي كَوْنِ هَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ مِنْ أَسْبَابِ الْفَلَاحِ وَالْقُوَّةِ وَالنَّصْرِ، وَأَوْرَدْنَا بَعْضَ الشَّوَاهِدِ عَلَى صِحَّةِ ذَلِكَ مِنْ وَقَائِعِ الْحَرْبِ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَأَقْوَالَ عُلَمَاءِ هَذَا الْفَنِّ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ.

.القاعدة الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: طَاعَةُ اللهِ وَرَسُولِهِ:

وَهِيَ مِنْ أَسْبَابِ النَّصْرِ الْمَعْنَوِيَّةِ بِنَصِّ قَوْلِهِ تَعَالَى عَطْفًا عَلَى السَّبَبَيْنِ السَّابِقَيْنِ: {وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ (46)} إِلَخْ. وَيَدْخُلُ فِي حُكْمِ طَاعَةِ الرَّسُولِ طَاعَةُ الْإِمَامِ الَّذِي يُحَارِبُ الْمُسْلِمُ تَحْتَ لِوَائِهِ، وَطَاعَةُ قُوَّادِهِ. قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللهَ وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللهَ، وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي، وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي رَوَاهُ الشَّيْخَانِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَفِي رِوَايَةٍ لَهُمَا بِلَفْظِ (الْأَمِيرِ) وَفِيهَا زِيَادَةٌ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ: وَإِنَّمَا الْإِمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِنْ وَرَائِهِ وَيُتَّقَى بِهِ، فَإِنْ أَمَرَ بِتَقْوَى اللهِ وَعَدَلَ فَإِنَّ لَهُ بِذَلِكَ أَجْرًا، وَإِنْ قَالَ بِغَيْرِهِ فَإِنَّ عَلَيْهِ مِنْهُ.
الْجُنَّةُ بِضَمِّ الْجِيمِ: التُّرْسُ وَالْوِقَايَةُ، وَمِنَ الْمَعْرُوفِ الشَّائِعِ مِنَ النِّظَامِ الْعَسْكَرِيِّ فِي عَصْرِنَا أَنَّ الطَّاعَةَ الْمُطْلَقَةَ رُكْنٌ مِنْ أَرْكَانِهِ، فَيُعَاقِبُونَ مَنْ يُخَالِفُ أَوَامِرَ الْقُوَّادِ مِنَ الْجُنْدِ أَفْرَادِهِ وَضُبَّاطِهِ أَشَدَّ الْعِقَابِ مَنْ ضَرْبٍ شَدِيدٍ، وَقَتْلٍ فَظِيعٍ، وَلَوْلَا هَذَا لَمَا ثَبَتَ فِي الْعَالَمِ الْمَدَنِيِّ سُلْطَانٌ وَلَا حُكْمٌ، لِكَثْرَةِ تَنَازُعِ الْأَحْزَابِ السِّيَاسِيَّةِ وَاخْتِلَافِ زُعَمَائِهَا حَتَّى فِي وَقْتِ السِّلْمِ، وَكَثْرَةِ دَسَائِسِ الْأَعْدَاءِ وَبَذْلِهِمُ الرِّشْوَةَ، وَلاسيما زَمَنَ الْحَرْبِ. [رَاجِعْ تَفْسِيرَ الْآيَةِ فِي أَوَّلِ هَذَا الْجُزْءِ].

.القاعدة الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ: وُجُوبُ الصَّبْرِ وَكَوْنُهُ أَعْظَمَ أَسْبَابِ النَّصْرِ:

وَلِذَلِكَ عَظَّمَ اللهُ تَعَالَى شَأْنَهُ بِقَوْلِهِ بَعْدَ الْأَمْرِ بِطَاعَتِهِ وَطَاعَةِ رَسُولِهِ وَبِذِكْرِهِ: {وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)} وَأَيُّ بَيَانٍ لِفَائِدَةِ الصَّبْرِ أَبْلَغُ مِنْ إِثْبَاتِ مَعِيَّةِ اللهِ تَعَالَى لِأَهْلِهِ؟!

.القاعدة الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ: التَّوَكُّلُ عَلَى اللهِ تَعَالَى:

وَكَوْنُهُ أَمَرَ اللهُ تَعَالَى بِهِ فِي هَذِهِ السُّورَةِ فِي مَقَامِ تَوْطِينِ النَّفْسِ عَلَى إِيثَارِ السِّلْمِ عَلَى الْحَرْبِ، وَثُبُوتِ الصُّلْحِ مِنَ الْأَعْدَاءِ مَعَ احْتِمَالِ إِرَادَتِهِمْ بِهِ الْخِدَاعَ (آيَةُ 61 و62) فَانْظُرْ تَفْسِيرَهَا فِي الْجُزْءِ الْعَاشِرِ، وَقَالَ قَبْلَهَا فِي الرَّدِّ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَمَرْضَى الْقُلُوبِ: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ (49)} وَقَدْ وَصَفَ اللهُ الْمُؤْمِنِينَ بِالتَّوَكُّلِ فِيهَا وَفِي الْآيَةِ الثَّانِيَةِ. وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَاهُ وَفَائِدَتَهُ فِي الْأَصْلِ الرَّابِعِ مِنَ الْبَابِ الرَّابِعِ لِهَذِهِ الْخُلَاصَةِ.

.القاعدة السَّادِسَةَ عَشْرَةَ: اتِّقَاءُ التَّنَازُعِ وَاخْتِلَاقِ التَّفَرُّقِ فِي حَالِ الْقِتَالِ وَمَا يَتَعَلَّقُ بِهِ وَتَعْلِيلُهُ بِأَنَّهُ سَبَبٌ لِلْفَشَلِ وَذَهَابِ الْقُوَّةِ:

وَذَلِكَ قوله تعالى: {وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} وَهَذَا مَا تَجْرِي عَلَيْهِ الدُّوَلُ الْقَوِيَّةُ ذَاتُ النِّظَامِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الشُّورَى فِي تَنَازُعِ الْأَحْزَابِ، فَإِنَّهَا تُبْطِلُ هَذَا التَّنَازُعَ، وَتُوقِفُ عَمَلَ مَجَالِسِ الشُّورَى النِّيَابِيَّةِ فِي زَمَنِ الْحَرْبِ، وَتَكْتَفِي بِالشُّورَى الْعَسْكَرِيَّةِ، وَهِيَ مَشْرُوعَةٌ فِي الْإِسْلَامِ، عَمِلَ بِهَا صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةِ بَدْرٍ، وَفَرَضَهَا اللهُ تَعَالَى فِي غَزْوَةِ أُحُدٍ، وَهِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى مَنْ دُونَهُ مِنَ الْأَئِمَّةِ وَالْأُمَرَاءِ بِالْأَوْلَى.

.القاعدة السَّابِعَةَ عَشْرَةَ: اتِّقَاءُ الْبَطَرِ وَمُرَاءَاةِ النَّاسِ فِي الْحَرْبِ:

كَالْمُشْرِكِينَ كَمَا فِي [الْآيَةِ 47].